الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

أقلّ الجمع: اثنان أم ثلاثة ؟

قال الله تعالى في آخر سورة النساء:-
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

قال ابن تيمية في جامع المسائل المجموعة الثانية صفحـ٣٣٧ـة:-
«..ولفظ "الإخوة" وسائر ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد العدد، كقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) ، وقد يعنى به العدد من غير قصد لقدر منه فيتناول الاثنين فصاعدا، وقد يعنى به الثلاثة فصاعدا. وفي هذه الآية إنما عني به العدد مطلقا؛ لأنه بين الواحدة قبل ذلك، ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرّق فيه بين الواحد والعدد، وسوّىٰ فيه بين مراتب العدد: الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا مما يبين أن قوله:(فإن كان له إخوة فلأمه السدس) يتناول الاثنين والثلاثة.
وقد صرح بذلك في قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث). فقوله: "كانوا" ضمير جمع، وقوله "أكثر من ذلك" أي أكثر من أخ وأخت، ثم قال: "فهم شركاء في الثلث"، فذكرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله "فهم" والمظهر وهو قوله "شركاء". ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله: "وله أخ أو أخت "، فذكر حال انفراد الواحد لا حال اجتماعهما.
فدل على أن قوله "أكثر من ذلك" أي: أكثر من أخ وأخت، وأعاد الضمير إليهم بصيغة الجمع، فدل ذلك على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقا: الاثنين فصاعدا؛ لقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)، وقوله: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس)، وقوله تعالى: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء). ثم هذه الصيغة تصلح لذلك، وإن كان إنما يراد بها الثلاثة فصاعدا في موضع آخر.
وإن قيل: إن ذلك هو الأصل، فصيغة الجمع قد تختص بالتثنية فيما كان مضافا إلى مثنى وليس فيه إلا واحد منه كقوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) ولا يحتمل إلا قلبين، فهذا يختص بالاثنين وعدل فيه عن لفظ الاثنين إلى لفظ الجمع للخفة وعدم اللبس، فإنه قد عُلم أن لكل واحد قلبا فصار استعمال لفظ الجمع في الاثنين مع البيان هو لغة القوم ومنه قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولم يقل: "يديهما"، فإذا كانت الصيغة تختص بالاثنين في الموضع المبين ولم يقل أحد إنها عند الإطلاق تختص بالاثنين فكذلك تستعمل في الاثنين فصاعدا في الموضع المبين، وإن كانت عند الإطلاق إنما تتناول الثلاثة فصاعدا، وليس شيء من ذلك مجازا بل كله من الموضوع في لغتهم.
وإنما غلط من ظن لفظ الجمع إنما وضع للثلاثة فصاعدا أو لاثنين فصاعدا، بل وضع لاثنين فصاعدا في موضع ولثلاثة فصاعدا في موضع ولاثنين فقط في موضع، كله من موضوع العرب، والقرينة هنا من وضع العرب، وإذا كانت القرينة موضوعة كانت بمنزلة ما يقترن بالفعل من المفعول به، ومعه، وله، والظرفين، والحال، والتمييز، وما يقترن باللفظ من الصفة، وعطف البيان، وعطف النسق، والاستثناء، والشرط، والغاية، وغير ذلك مما يقيد مطلقه ويكون مانعا له من العموم موجبا لاختصاصه ببعض ما يدخل فيه عند عدم تلك القيود، فإن هذا كله مما وضعت العرب أجناسه كما وضعت رفع الفاعل ونصب المفعول به وخفض المضاف إليه.»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق